«تلك العتمة الباهرة» ملحمة إنسانيّة للأموات الأحياء
نسرين بلوط
Monday, 17-May-2021 06:28
في عتمةٍ باهرةٍ للحزن، يمضي الروائي الطاهر بن جلون في تأطير رسمٍ مفزعٍ لجهنّم التي تكبّدها السجناء العسكريّون الذين حكم عليهم بالعدم الأسود، والذي هو أمرّ من الموت وأقبح من سكراته، وأكثر إذلالاً من الإعدام أو الشنق، بعد انقلاب احتفال الصخيرات الشهير في المغرب على الملك الحسن الثاني عام 1971، والذي قاده الجنرال أمحد أعبابو والجنرال محمد المدبوح برفقة عددٍ آخر من الجنرالات العسكريّين، وراح ضحيّته الكثير من المدعوّين ونجا منه الملك، وتردّدت يومها شائعات سرتْ في الأجواء، بأنّ الجنرال أوفقير كان اليد الخفيّة المدبّرة له خاصة بعد أن قاد انقلاباً آخر بعد هذه الحادثة بعام واحد انتهى أيضاً بالفشل الذريع، حتى ردّد الملك الحسن الثاني ساخراً بأنّ قيادته تعاني ضعفاً جذريّاً في خلاياها، إذ تخفق كلّ مرّة في إصابة الهدف.
 

رواية «تلك العتمة الباهرة» قيلَ إنّها القصّة الحقيقيّة للسجين عزيز بنبين، في أشهر السجون المغربيّة، وهو سجن تازمامارت المرعب الذي يحرجُ بهوله العتمة الخاوية بسبب وحشته وظلمته الدامسة، والظلم المدقع والتّعذيب المتفشّي فيه، وقد حرّك المنظمّات الحقوقيّة الوطنيّة العالميّة للانتفاض على المعاملة اللاإنسانيّة التي تتوّج أعناق السجناء فيه، إذ انّه كان الأكثر سريّة ووحشيّة بين سجون العالم، والأشهر دمويّة في أسلوب العيش القبيح.

 

قصّة حقيقية

 

السجين حسب مذكرّاته، هو جنديّ أطاع أوامر قادته العسكريّين الذين أعلموه ورفاقه أنّ هناك مناورة عسكريّة في قصر الصخيرات، وأخفوا عنهم خطّة الانقلاب، فرأى الجثث تتطاير أمام عينيه ملطّخة بالدّماء، وهو يقف متسمّراً متجرّداً من واقعه، محنّطاً كجثة فرعونيّة مسّها السحر، يرقب المشهد من دون ان يطلقَ رصاصة واحدة.

 

يصدر عليه حكم بالسجن لمدّة عشرين عاماً في غياهب سجن تازمامارت المدفون في الرّمال في عتمةٍ حالكة لا تسمح لوميض الضّوء بالتسلّل إليها، بل تنشر غشاوتها في ضراوةٍ وحشيّة تروّع وتفزّع وتسرّع الموت اليه، وقد وصف السجن بقوله: «كان القبر زنزانة يبلغ طولها ثلاثة امتار وعرضها متر ونصف أما سقفها فوَطِئ جداً يتراوح ارتفاعه بين مئة وخمسين ومئة وستين سنتيمتراً. ولم يكن بإمكاني ان أقف فيها».

 

في تبتّل الناسك الذي آثر الصمت لينجو من سياط الألم الحسيّ يختار السجين السكون في خشوع التصوّف الحالم بالرّحمة رغم غياب النور، فيزيد إيمانه وتتكاثف رؤاه وأحلامه، ثمّ تغيب وجوه رفاقه السجناء واحداً إثر الآخر بعد موتهم بسبب تعرّض بعضهم لِلسعات العقارب السامّة التي أطلقها عليهم الجنود خفيةً، أو بسبب البرد الشديد، أو لتناول بعضهم لبيوض الصراصير والحشرات عن طريق الخطأ بعد تغلغلها في كسرات خبزهم الجاف كالصّخر والمرير كأيامهم الحالكة، وعدم قدرتهم على تمييزها بسبب العتمة، وكان الوقت الوحيد الذي يسمح لهم برؤية الضوء عند موت أحدٍ منهم، بسبب اضطرار الحرّاس الى أن يخرجوهم ليدفنوا زميلهم ويواروه الثرى. وفي وصف فرحه حينها لرؤية الضوء يقول: «طوال ساعة أو أقل، أبقيت عيني مفتوحتين، وفمي فاغراً، لكي أتجرع ما أمكن من الضوء، لكي أستنشق الضياء وأختزله في داخلي، وأحفظه ملاذاً لي فأستذكره كلما أطبقت العتمة ثقيلة فوق جفني، ابقيت جذعي عارياً لكي يتشبّع جلدي بالضوء ويختزنه كأثمن ما يقتنى».

 

التشبّث بالأمل

 

يخفقُ السّجينُ في التشبّث بالأمل مراراً حتى يتمنّى الموت ولا يأتي وتتآلب عليه المآسي والأمراض والعلل، فيقول: «كم هو صعبٌ أن تموت حين تريد الموت»، ثم يعود ليتمسّك بتلابيب المقاومة والعودة إلى الحياة حتّى برمقٍ ضعيف وأنفاسٍ واهيةٍ فيقول: «الوجع يمنحني صفاء غير معتاد، أتألّم ولكني أعلم ما الذي ينبغي فعله لك».

 

ما يدهش القارىء أنّه عندما يسترجع السجين ومضاتٍ من ذاكرته التي قرّر أن يلغيها عندما دخل السجن حتى ينسى ماضيه ويتناسى حاضره ولا يتأهّب لملاقاة غده، يذكر في خجلٍ وتردّدٍ أنّ والده الذي طلّق أمّه وتركها مع أولادٍ صغار تصارع الفقر وتقهره بصبرها وعملها، وتزوّج أخرى تصغره سنّاً بكثير، كان يعمل مؤنساً للحسن الثاني، رغم أنّه كان في شبابه مثقّفاً لامع الفكر، وقارئاً نهماً حاذقاً، الا أنّه أهرق كلّ مواهبه ليضحك السلطان ويبهجه بسرعة بديهته الحاضرة للنكتة المبطّنة، ويدخل السرور إلى مجلسه، والأغرب أنّ والده كان حاضراً في حفل الصخيرات، ولكنّه نجا وجَثا أمام قدمي الملك ليرجوه أن يعدم ابنه رمياً بالرّصاص وبلا رحمة ـ لتجرّؤه على سيّده، وراح يكيل اللعنات عليه من دون أن يتحقّق ما اذا كان ولده متورّطاً فعليّاً في الإقتحام والمجزرة الدامية.

 

يترامى خبر وجود سجن تازمامارت والظلم المدقع الذي يجوب ترهاته الخفيّة إلى منظمة الحقوق الإنسانيّة في فرنسا مع إصرار السلطة المغربية على نفي وجوده من الأصل، وبعد اشتداد وطأة الالحاح والضغط الدولي، يتمّ اطلاق سراح السجناء الأحياء منه، ثم يردم السجن وتخفى معالمه بزرع الأعشاب والنباتات فوقه، وتطمس آثار التّعذيب في رمال الوحشة والغربة القاسية، ولكنّها تعشعش في الذاكرة كطلسمٍ أبديّ يعود إلينا في رواية معتمة.

 

بقايا إنسان

 

يعود السجين الى أهله في مراكش بقايا إنسان مروّع، مدمّر الروح، جاحظ العينين، متلف الإحساس، مجعّد الجبين، بعد أن أخاف لجنة الأطباء التي أشرفت على علاجه خلال فترة النقاهة، وتعجّبت لبقائه حيّاً بعد الأذى الجسديّ والنفسيّ والروحيّ الذي طال معالم وجوده.

 

الرواية معاناةٌ انسانيّةٌ خلّفتها أذيالُ لعبةٍ سياسيّة قذرة، غالباً ما يروح ضحاياها الأبرياء الأقل شأناً، وفي مقدّمتها تعبيرٌ يلخّص معاناة السجين في لغة رشيقة بالغة الدقّة في الوصف، ومع تصاعد الأحداث يقف القارئ عند ناصية التكرار التعبيري الوجداني في رتابةٍ كثيفة، لا تخدم حشو الصدر والعجز في الأسلوب الفنيّ للقصّة التي تشبه حواشيها في تناسقها دقّة الأبيات الشعريّة وموسيقاها وناموسها الخفيّ، فيستطيع المتلقّي عندئذ أن يطوي صفحاتٍ طويلة من دون قراءتها لأنّها تصبّ في قالب الوصف نفسه وهذا التكرار هو مأخذ يتكرّر في روايات بن جلون، كما أنّه استوحى من معاناة مليكة أوفقير في روايتها السجينة من أسلوب التعمّق في توصيف الوقت عندما يضع بطل روايته السجين في موقع الراوي للقصص لزملائه في السجن كما فعلت مليكة لتبدّد وحشة من حولها وتقلّل من وطأة آلامهم الملحّة.

الأكثر قراءة